علق في ذهن الانسان منذ بدء الخليقة وفي عقله اللاواعي وفي وجدانه من قديم الأزل أن الموت مما تنفر النفس منه ومن ذكر ذلك الضيف الثقيل الذي يزور كلَ حيّ في حينه، فيفرِّق بين الأحباب ويغيِّب المرء تحت التراب، رغم أنه حقيقة واقعة لا ينكرها أحدٌ إن لم تكن هي الحقيقة الوحيدة المؤكدة التي لا يختلف عليها اثنان بين جميع البشر على اختلاف أفكارهم وثقافاتهم ومعتقداتهم؛ إلا أن النفس دائمًا ما تحيد عنه، الأمر الذي أشار إليه الحقُ في قوله تعالى: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾.
ذات يومٍ طالعتُ قصة أسطورية رمزية قصيرة تحكي في خلاصتها أن رجلًا نظر إلى ما في الكون من حوله فوجد أن كل المخلوقات التي خُلقت مُسخَّرة من أجله من أجرام وأفلاك وكائنات وأشجار وأحجار وبحار وأنهار ودوآب تحيا حياة أطول منه على هذه الأرض، فتعجب وتمنى أن يكون له عمرًا مديدًا يشبه عمر النسور، وبالفعل تحققت له تلك الأمنية وعاش حتى طال به العمر ومضى به الزمان وتعاقبت عليه الأجيال ووارى الموتُ جميع أفراد أهله وأصحابه وأحبابه وأقرانه ومعارفه، حتى لم يعد له منهم من أحد يشاركه أفكاره وآماله وأفراحه وأحزانه وهمومه، وبتعاقب الأجيال عليه نشأت أجيال لم يستطع أن يتفاهم أو يتعايش معها لما بينه وبينها من أعمار ورؤى وأفكار وطموحات وآمال وخبرات وتجارب وعادات وتقاليد مختلفة عنه تمام الاختلاف، وإذا بالسنوات تمر عليه مرورًا ثقيلًا حتى رأى أن حياته قد أصبحت حياة تعيسة مملة، وبات ذاك الحالم بعمر النسور ينتظر الموت بلهفة ليخلِّصه من مشاعر الوحدة والغربة والوَحشة هذه ويتمنى حينها أن لو كان قد رحل مع مَنْ رحلوا، وعندئذٍ يدرك أن الموت سنة كونية ورحمة إلهية بالإنسان؛ مَنْ عرف الحكمة منه أدرك حقيقةً قيمة الحياة، وأدرك أن السعادة الحقيقية لا تُقاس بطول العمر بقدر ما تكمن في أن يحيا الإنسان حياة طيبة كريمة يستمتع فيها بكل لحظة من عمره بين أحبابه ويقدِّم فيها من العمل ما ينفع به نفسه وما يخدم به مجتمعه وما يورّثه من نافع العلوم وقيِّم الأعمال للأجيال من بعده ليترك في هذه الحياة بصمته المميزة وسيرته الحسنة وعمله القيِّم قبل رحيله؛ فكم من الأحياء مَنْ يعيشون بين الناس أمواتًا، وكم من الأموات مَنْ رحلوا بأجسادهم وتبقى سيرتهم الطيبة وأعمالهم القيِّمة حية بين الناس ينتفعون بها جيلًا بعد جيل فتخلد معها أسماؤهم وتبقى في الذاكرة سيرهم.
ومن المنظور الديني عامة والإسلامي خاصة، فما الموت إلا مرحلة انتقالية من مراحل تطور الإنسان كما تطور خلقه من تراب إلى صلصال إلى جسد مكتمل الهيئة قبل أن تُنفخ فيه الروح: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾، وكما ينتقل الإنسان خلال مراحل تكوينه جنينًا في بطن أمه من نطفة إلى علقة إلى مضغة حتى يخرج من حياته الانتقالية هذه إلى حياة انتقالية أخرى، يرتقي بعدها من طور الطفولة إلى الصبا إلى الشباب إلى الكهولة إلى الشيخوخة: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا ۚ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبْلُ ۖ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ وبالمثل، ينتقل بعدها من حياته الدنيوية هذه إلى حياة انتقالية أخرى لا يهابها إلا لأنها لا تزال تمثل له المجهول الذي لا يعلم عنه شيئًا بعدُ حتى يلقاه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ ۚ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ﴾.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق