السبت، 23 يناير 2021

غوَّاص في بحر الترجمة

 

بقلم المترجم: حسن بخيت حسن

منذ نعومة أظافري أعشقُ السفر والترحال كما أهوى القراءة والاطلاع، ولما كنت مترجمًا تحريريًا ولم يكن لي أن أتجول في تلك البقاع البعيدة والأزمان السحيقة التي كنتُ أود الارتحال إليها والانتقال بينها، فقد اتخذتُ من مقعدي هذا الذي أحنى ظهري بساطًا ومن شاشة حاسوبي التي أرهقتْ عيني صباح مساء بنورة سحرية تشبه بنورة الساحرات التي تكشف للناظر فيها ما لا تراه عينه من عوالم شتى؛ يُعرض عليَّ نص أدبي فأجدني أتجول مع ذاك الأديب الأريب وهو يصف جمال الطبيعة والجبال والبحار ويصوغ من سطوره ما يكشف عن سر ولعه بكل هذا الجمال من حوله، ويصطحبني هذا الشاعر معه حين يلتقي بمحبوبته يتغزل في حسنها وجمالها وبهائها ويطربني ما أسمع منه من أشعار تتغنى بها الشفاه فأحفظها من جمال نظمها وسلاسة أبياتها ووحدة قوافيها، وما أزال أعايشُ ما يكابده ذلك الشاعر من هيام حتى يأتيني نص ديني ينقلني إلى حيث دور العبادة المقدسة لأرى كيف يتقرب فيها العابد والزاهد والناسك إلى ربه، كلٌ وفق عقيدته وشريعته ما بين معبد وكنيسة ومسجد وصوامع أخرى أقامها كل صاحب دين لدينه مؤمنًا بقدسيتها يتعبد فيها إلى ربٍ قد تختلف في تصور كنهه الأفهام إلا أن الجميع يؤمن أنه هو الخالق الذي أبدع كل هذا الكون العظيم وأحكم صنعه وصنعته، وها هو يلتزم بتعاليمه حتى ينال ما ينتظره من ثواب إن أطاع وينأى بنفسه عن العقاب إن هو أبى وعصى، وما لبثتُ أن خرجتُ من تلك الصوامع والمعابد والجوامع حتى وجدتُ أناسًا يتهامسون فيما بينهم بأن الطبيعة هي كل شيء وأنهم لا يعترفون بهذه الأديان التي يعتنقها كل صاحب دين، فلا إيمان لديهم إلا بالماديات والمحسوسات، ولا مكان بينهم للإيمان بغيبيات؛ فلا هم ينتظرون ثوابًا ولا يخشون عقابًا ولا يعملون ليومٍ يُجَازون فيه على ما قدموا، ومن ثَّم فهم يعيشون حياتهم كما يريدون ويبيحون لأنفسهم كل الملذات ويطلقون  لشهواتهم العنان، فلا حياة عندهم إلا هذه الفانية وعليهم أن يستمتعوا بكل لحظة فيها، وعلى مرمى البصر أرى هناك أقوامًا شعثًا غبرًا يظهر من سمتهم ووقارهم الحكمة على ما يعلو ثيابهم من غبار لا يدل على اهتمامهم بمظهرهم، وماذا يفيد مظهرهم وهم لا يعترفون إلا بجواهر الأشياء ولا ينخدعون كثيرًا بترف الحياة؟! فقد ارتقوا بعقولهم ليتفكروا في الحياة فتراهم ينظرون إليها من برج عالِ نظرة كلية شمولية لا تغرق في التفاصيل التي يتوه فيها كثير من عامة الناس دونهم، فهم الفلاسفة الذين يفسِّرون ويعلِّلون كل ما هو موجود، وكما يطلق الملحدون لشهواتهم العنان فعلى النقيض يطلق هؤلاء لعقولهم العنان بلا حدود للتفكير وإعمالٍ للعقل؛ فيتخذون منه معبودهم ويخضعون له كل سلطان، فيتفكرون ويتباحثون ويتجادلون في أصل الوجود والحق والعدل والخير والجمال والخالق والمخلوق والواجد والموجود وقيمة الحياة وغايتها وطبيعة النفس البشرية وعلاّتها، وما لبثتُ بعدها أن رأيتُ أقوامًا على كتبهم منكبون وبما في أيديهم يكتبون ويسطرون، فإذا فرغوا مما في أيديهم من القرطاس والقلم أخذوا يعيدون الكَرة وكأن ما يكتبون لا نهاية له، ولعلهم على هيئتهم هذه منذ سنين ولا علم لي متى ينتهون، نعم إنهم المؤرخون الذين يسجِّلون أخبار الأولين والآخرين على مر العصور والسنين، في ذاكرتهم ما طوته الأيام، وما دار فيها من أحداث ومشاهدات منذ وُجد أول مخلوق على هذه الأرض ومنذ أنشأ أول إنسان أول حضارة عرفتها البشرية، ورأيتهم كيف يتعجبون من دورة الأيام وتداول الحضارات وتعاقب الأمم وتباين الثقافات وكيف تبنى الأمجاد، وما الذي يتركه الأجداد للأحفاد من تراث للإنسانية، وكيف يسطع نجم أمة وكيف يخبو ضوؤها لتعتلي أمة أخرى عرش مجدها حتى يحين موعد نزولها عنه، وهكذا دواليك، أمة تسلِّم لمن تليها رآية المجد والحضارة وشُعلة العلم والثقافة، وبين كل حين وحين يعيد التاريخ نفسه من جديد، وكأن الآخرين لم يعتبروا بما تركه الأولون من دروس وعبر على مر الزمان، فأنصرفُ عنهم لألمح من بعيد أناسًا ترى في أعينهم شعاع العلم ونور المعرفة، يجتمعون تارة في معملهم، وتارة تجدهم يحفرون الأرض، وأخرى فوق البحار، وتارة تحتها، وتارة أخرى تجدهم في كبسولة فضائية تنقلك من أرض إلى أرض ومن سماء إلى سماء لتطوف معهم في ساحة الفضاء الشاسع بين الأجرام والأفلاك والكواكب والنيازك والشهب والأقمار والنجوم، فترى وتتأمل كيف بهذا الإنسان الضعيف أن يغتر بنفسه وبقوته أمام عظمة هذا الكون الفسيح وهو لا يساوي فيه مثقال ذرة إلا كما تساوي حبة الرمل الواحدة في صحراء شاسعة لا تحدها حدود ولا يحيط بها سور، ثم تهبط معهم لتجلس في معملهم وهم يفحصون جسم الإنسان؛ فإذا بك تدهش مما ترى من عالم منظم دقيق داخل هذا الجسم النحيل الذي يحوي روح الكائن البشري، فتسمع دقات قلبه وانتظامها وترى شريان أوردته وجريانها وكل جهاز من أجهزة جسمه يؤدي وظيفة محددة له في تناسق وتعاون مُحكم دون أن يشعر صاحب هذا البنيان؛ فتتأمل كيف أبدع الخالق في صنعته، وخرجتُ من معمل العلماء تعتريني مشاعر العجب والانبهار من عظم ما رأيتُ، ومن غزير ما علمتُ، فألمح أمامي مصنعًا فيه العمَّال يجيئون ويذهبون وحول منتجهم يجتمعون وبين ماكيناتهم وآلاتهم يحتشدون حتى إذا فرغوا مما بأيديهم يصنعون... وهكذا أظلُ أتنقل من مكانٍ إلى مكان ومن بلد إلى بلد ومن حالٍ إلى حال ومن عالم إلى آخر فأتعلم من هنا وهناك ما كنتُ أجهله من عوالم أشاهدها وأتعايش معها وأتفاعل بها وأنا جالس على مقعدي بين يديَّ ملفات عدة تأتي من هنا وهناك لتبحر بي بين الفينة والفينة في بحار شتى.. بحار الترجمة!



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق