مرت لحظات ودقائق وساعات وأيام وشهور وسنون دون أن يسطر القلم ما يجول بالخاطر وما يشغل الفكر وما يعكر صفو البال، طال على المحارب الأمد على استراحة هذه المرة لشراسة معركته وطولها وحدة وطأتها، عاد القلم ليسطر ما رأته العين وما سمعته الأذن وما استقر في الوجدان وما أنَّ لأنينه القلب والجَنان.. سكن الليل ليشهر القلم سنانه في وجه مجتمع موبوء، طال الصمت عن وبائه حتى شاع شيوعًا يكاد يعمي الأبصار ويصم الآذان ويذهب بلباب العقول، وجدته يهتز مرتجفًا فأشفقت عليه حتى ضممته ببناني لعل في ضمه ما يهدأ من روعه ويسكن من رجفته، فصارحني وكاشفني بأسباب وجده فما كان له أن يكتم عني أمره فأخذ يفرغ ما في جعبته ويسكب بدل حبره دمًا يسطر به على صفحة بيضاء حتى احمرت صفحات دفتري عن آخرها.. ما كل هذه الجراح يا صاح، تكلم علي أجد لضيقك من الله مخرجًا ومنه لكربتك فرجًا، ماذا وجدت وماذا رأيت، فشرع القلم يحدثني عما رأى من وباء طغى وعم وفساد كثير جم شاع بين أفراد المجتمع فردًا فردًا حتى لا يكاد يسلم منه أحد، رأى الفساد في كل ركن وفي كل جانب من جوانب محيطه، رأى شهوات النفس وقد عمت في كل مكان من رزيلة وفحش وهرج ومرج وبلادة وسلبية وفقر ومرض وجهل وعبث وحقد وحسد وغفلة، ونفاق الكل في مستنقعه غارق حتى القاع والكل من كأسه شارب حتى الثمالة.. كبائر ما انتشرت في مجتمع إلا هلك، عن بعضها يقول قلمي: رأيتُ أهل الباطل بباطلهم يتفاخرون وأهل الحق عن قوله صامتون وبين هؤلاء وهؤلاء قوم حائرون وعن التمييز بين الحق والباطل تائهون وعن جادة الصواب يحيدون، رأيتُ عاهرات أصدق من مدعيات الطهر والشرف، ورأيت منافقين يرفعون رآية الخير والبر وهم عنهما أبعد الخلق، ورأيتُ أولي أمر لأحلام رعيتهم يسفهون وبعقولهم يستخفون وبآمالهم يتلاعبون وعن الأكاذيب لا يتورعون، ورأيت إعلامًا يزيف وعيهم وفنًا يفسد أذواقهم ودعاة بسفاسف الأمور يشغلونهم وعن عظائم الأمور يصرفونهم، ومتسلقين بأحلام السلطة متشبثون، ولكل مَنْ يصل بهم إلى القمة متملقون، فأصبحت ترى الناس سكارى وما هم بسكارى، بقوت يومهم مشغلون وعن ربهم غافلون وعن لقائه منصرفون وعن الثواب والعقاب لاهون، وفي أكل لحوم بعضهم بعضًا غارقون، زُين لهم حب الشهوات والمجاهرة بها بل والدفاع عنها، عن كل ما هو حلال إلى كل ما هو حرام في شرعٍ يدّعون الإيمان به والتمسك بفضائله منصرفون. لم يعد أحدٌ يحب الخير لسواه حتى إذا رأى خيرًا يكاد يصيب صاحبه هرع يمنعه عنه ما استطاع إلى ذلك سبيلا. لم يعد قريب ينفع ولا حبيب يشفع ولا غريب يقنع، فالكل وراء أهوائه يلهث وإن طغت على كل فضيلة يدعيها بلسانه وينكرها بقلبه وتعمل بخلافها جوارحه... وهنا رأيت القلم ينتفض ويكاد مداده ينسكب، فهدأت من روعه أن كفى اليوم يا صاح ولنا في الغد إن شاء الله حديث آخر.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق