لعل من الدروس المستفادة من هذا الفيروس المستجد أن جعلنا نقف مع أنفسنا وقفة صادقة لننظر إلى هذه الحياة نظرة مجردة لنكتشف أنها لم تكن تستحق كل هذا العناء في التكالب على زخرفها وأننا قد نغادر قطارها في أي وقت وبأهون الأسباب التي قد لا تبصرها العين المجردة... ليست هذه نظرة تشاؤمية كما قد تبدو ولكنها نظرة واقعية؛ فالموت هو الحقيقة المؤكدة للجميع، وكلنا يدرك تمامًا أننا جميعًا راحلون عن هذه الحياة يومًا ما إن عاجلاً أو آجلاً، وأن مغادرة قطار الحياة مسألة وقت ليس إلا، وليس هذا الفيروس بالسبب الوحيد، وإن تعددت الأسباب فالموت واحد، وما دام هذا هو المصير الحتمي، فلا داعي للتهويل والترهيب والترويع؛ فالله عز وجل يقول: "قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّـهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّـهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ"، فالذي كتب لنا الحياة فأخرجنا من العدم إلى الوجود "هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا" هو الذي كتب علينا الموت "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ" ويقول الرسول الكريم: "عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ".. أما عن الجانب النفسي لمعظمنا فقد تأثر ولا شك من سيل الأخبار المتواترة هنا وهناك عن مدى تفشي هذا الوباء العالمي ومن المؤكد أن له تأثيرًا واضحًا على جميع جوانب حياتنا الشخصية والاجتماعية والمهنية، وما علينا إلا التضرع والدعاء برفع البلاء مع الحيطة والأخذ بأسباب النجاة والتقرب إلى رب الأرباب ثم التسليم بقضاء الله وقدره بنفسٍ راضية مع مواصلة السعي عملاً بقول الرسول الكريم في الحديث الصحيح: "إِنْ قَامَتْ عَلَى أَحَدِكُمُ الْقِيَامَةُ، وَفِي يَدِهِ فَسِيلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا" ولتكن بعدها مشيئة الله؛ فلن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها، وإلى الله المرجع والمآل.
ولعل من فوائد هذا الفيروس المستجد أنه يقدم لكل ملحدي العالم اليوم دليلاً عمليًا - بعيدًا عن التنظير - على فساد اعتقادهم وهم "يشاهدون بأم أعينهم" آثار ما يفعله هذا الكائن الطفيلي الذي "لا يُرى بالعين المجردة" ولا يزيد حجمه على 500 نانو متر وقد أعجز العالم وأقعد ما يزيد على 4 مليار إنسان مكتوفي الأيدي بلا حول ولا قوة وفرض على الجميع حجرًا صحيًا إجباريًا ولا يزال يحصد أرواح الآلاف ويصيب مئات الآلاف ويهدد اقتصاد العالم بالانهيار... فهلا يجادلون اليوم بأن هذا الفيروس وغيره مما لا تراه أعينهم المجردة "لا وجود له" إن كانوا لا يعترفون إلا بوجود ما تراه الأعين أو تدركه الحواس؟! أم أدركوا اليوم أن لهذا الكون خالقًا "لا تدركه أبصارهم" هو المدبر لهذا الكون بكل ما فيه وأنه "واجب الوجود" ولا يزال يتفضَّل عليهم وهم لآثار رحمته منكرون وإن لم تدركه الأبصار لأنها غير مؤهلة بما يعينها على رؤية الحق بجماله وجلاله في الدنيا كما أننا اليوم غير مؤهلين لرؤية بعض مخلوقاته بأبصارنا المجردة؟ ولو لم تتوفر المجاهر والميكروسكوبات المجهرية للبشر لما تيقنوا من وجود ذاك الكائن ولما أمكنهم اكتشافه وتتبع آثاره، ولعلهم نسبوا تلك الإصابات والوفيات إلى أشباح أو أرواح شريرة كما كان يظن الإنسان البدائي قبل أن يهتدي بالعلم إلى تلك الأداة.. أم لا تزال قناعة هؤلاء بأن كل ما يجري إنما هو بمحض الصدفة البحتة، وإن كان، فبمً يفسرون سلوك هذا الكائن الذي يجوب العالم ويحارب الجميع بل ويتفوق على ذكاء الإنسان بكل ما وصل إليه من علم وتقدم حتى الآن وكأنه يعقل ويدرك تمامًا كل ما يقوم به حتى يحافظ على بقائه وحياته ولو على حساب ذلك الكائن البشري الضعيف.. وكلما تقدم العلم ظهر من أمثاله ما يعجز البشر عن مواجهته حتى يهدي الحقُ الخلقَ إلى ما يعينهم على الدفاع عن أنفسهم به في مواجهته باللقاحات والأدوية والعقاقير وأمثالها ليدرك ذاك الإنسان المغرور على ضعفه أن لهذا الكون ربًا يدبر أمره "...إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق